28.11.12

مدينة البط



كنت أشاهد وأنا طفل تلك البطة التي ترقص مغنيةً مناديةً على أهل بلدتها لإنقاذها من "التعابين اللَّمُوني".. 

فما أن يجري الجميع لإنقاذها، حتى تنفجر ضاحكة لخدعتها التي انطلت عليهم.. وما أن تتكرر الخدعة، حتى يقرر الجميع : 
"إحنا أهل مدينة البط.. مش هنصدق حاجة تقولها"

وبالطبع عندما تتعرض البطة للخطر الحقيقي، لا تجد من ينجدها أو يصدق استغاثاتها!
---------------------
    في إحدى عبقرياته، مسرحية تخاريف، يتقمص محمد صبحي شخصية الدكتاتور الأحمق، الذي يبدأ حكمه بآمال كبيرة في تحقيق خير ونماء للشعب الأنتيكي البسيط لم يسبق تحقيقه في أي من دول العالم.
لينتهى حكمه بانقلاب شعبي عليه لنجاحه الساحق في تحقيق أسوأ معدلات الفقر والمعاناة لهذا الشعب التعس.


    في أثناء حكمه -وبعد انعزاله في قصر الحكم عن الشعب الذي يحكمه- يقرر أن يستجيب لطلب زوجته بأن يستمع لشكوى مواطن من الشعب، متمتا:
"شوفولي أي مواطن من الشعب أتكلم معاه.. ع الأقل أعرف شكلهم إيه ولاد الكلب دول".
ثم يسأله سؤالا بسيطا:
"هل أنت من المؤيدين لي.. ولحكمي وحكومتي، تأييدا مطلقاً؟" مشيرا برأسه أن نعم؛ "أم أنك -لا قدر الله- من المعارضين؟" مشيرا بعلامة الذبح!

كانت هذه الجملة التي اخترتها لتكون Facebook status بعد الإعلان الدستوري الأخير لد. مرسي، لتحظى بإعجاب وتأييد معارضي الإخوان، ورفض الإخوان بالطبع.. وربما لو فهموا لم اخترت هذه الجملة لرفضها معارضي الإخوان كما فعل الإخوان تماما.

أمسك د. مرسي البلد في فترة من أشد وأصعب الفترات التي تحياها البلد.
مفككة الأوصال..
مشتتة المذاهب..
في ذات الوقت الذي ارتفع فيه سقف طموحات أبنائها بشدة، بعد تجدد أملهم فيها بقيام ثورة يناير، التي لم يتفق ثوارها إلا على شيئين:

  • مش عايزين حسني.
  • لن نتفق مرة أخرى.
لينقسم الجميع إلى شخص وتابعيه.. كالحديد للمغناطيس.
إن قال يمينا فإلى اليمين، وإن كان يسارا.. فالوجهة هي اليسار بالتأكيد!
د. محمد مرسي
فأصبح هناك مرسي والإخوان.. والتأييد المطلق، حتى قبل أن يصدر القرار!!
فهو لن يقرر إلا ما فيه سبيل الرشاد.
وأصبح هناك البرادعي والبرادعاوية (كما يطلقون على أنفسهم).. وبالطبع هناك التأييد المطلق.
فإن قال الثورة.. فهي الثورة والقرارات الثورية.. وإن قال الدستور وسيادة القانون.. فهو القانون وهيبة القضاء.. إن قَبّل أنجيلينا.. فـ"الراجل قد أبوها".. وإن قال الهولوكوست.. تنتشر تدوينات تفنيد أدلة حدوث الهولوكوست.
لا أريد الإطالة هنا بالحديث عن حمدين أو أبي إسماعيل.

د. محمد البرادعي
لتبدأ البلد في فاصل سخيف وقذر من لعبة القط والفأر.
فأصبحنا بين حالة من التخبط والتشتت من الإخوان..
في مقابل حالة من التربص والشماتة أحيانا من القوى الأخرى..
القوى والأحزاب الثورية تطالب بمطالب استثنائية، حيث أنه بالطبع لا يوجد في القانون المصري ما ينظم قيام الثورات، ويحدد مسئوليات وواجبات الأحزاب والجماعات والأفراد في إطار ثوري قانوني منظم.
فلا يوجد قانون يسمح بإعادة المحاكمة لأي مذنب بعد الحكم عليه..
لا يوجد قانون يسمح لمسئول أو رئيس بعزل موظف معين، بتهمه انتمائه للنظام القديم..
بل لا يوجد قانون يسمح بإنهاء نظام الحكم وتغيير كل رموزه أصلا!!
وفي نفس الوقت -وبما أن الإخوان هم من في الحكم- أصبحت تنادي هذه القوى بسيادة القانون، واحترام الدستور، ونددت بقرار الرئيس بعودة مجلس الشعب مرة أخرى، فهو قرار غير دستوري!!
ثم اعتبرت قراره بـ "عزل" النائب العام لدرجة "سفير"، هو تهديد لسيادة القانون
(رغم أن هذا الطلب كان من أوّل ما أعلن كمطلب أساسي لثورة يناير)، 
وانفراد بالسلطات جميعا (رغم أنه أراد ترك السلطة التشريعية لمجلس منتخب أياً كانت المآخذ عليه.. فالسلطة في يدٍ واحدةٍ ليست كمثلها في يد أكثر من أربعمائة شخص، حتى وإن كان أكثريتهم من نفس الفصيل الذي تنتمي له هذه اليد الواحدة).
وأصبح مشهدا عاديا جدا أن ترى الثوري ذو الأنصار يسير ذراعا في ذراع مع من أطلق عليه بنفسه منذ عدة أشهر أنه من "الفلول" أو على الأقل قبِل أن يعمل مع النظام السابق.
فالمعيار الأساسي في الحالين ليس "الفلولية".. إنما هو الشعار الضريبي الشهير: مصلحتك أولاً!

وذلك -وكما يقول مجتمع الفيس بوك- بعد أن شرِب الرئيس زجاجة البيريل الأثيرة، ليصدر قراره بإعلان دستوري يعطيه الحق في كل شئ، حتى أصبح لا يسأل عما يفعل وهم يسألون!
متجاهلا أن القرارات العنترية (والتي تحتاجها الثورات بالفعل) لابد لها من سند شعبي مؤيد.. وبشدَّة.
ومتناسيا أن هذا السند الشعبي غير موجود أصلا..
واعتمادا على تمثيلية التأييد التي سيقوم ببطولتها أبناء الحرية والعدالة، بقدرتهم -المنطقية جدا- على الحشد السريع والمنظم.
يصدر الرئيس قراراته العنترية..
يحتشد مئات الآلاف مناديين "طهر يا ريس.. نضف يا ريس.. معاك يا ريس"..

دون أن يدرك -ويدركوا- أن الاحتشاد للتأييد دائما ما يأتي بعد القرار، وليس قبله بأي حال من الأحوال!
وبعد أن تناسى الكثير من الحقائق المنطقية..
فالرئيس..
لم يكن هو الزعيم الأسطوري الذي حمله الناس على الأعناق مطالبين بتوليه زمام المسئولية في هذا الوقت العصيب.. بل هو الرئيس الذي جاء بانتخابات فضّل نصف ناخبيها مرشح النظام القديم عليه، لتقع القوى الثورية في حسبة برما.. ما بين المقاطعة أو الليمونة!
والرئيس..
هو مرشح حزب وعد بالمنافسة على 35% من مقاعد مجلس الشعب، ليعلن بعدها بعدة أسابيع تعديل الوعد إلى 50%!!
وهو الرئيس..
مرشح حزبٍ، وعد بعدم ترشيح أحد أبنائه لرئاسة مصر في هذه الإنتخابات.. ليجد الشعب نفسه أمام مرشحَيْن من هذا الحزب لضمان كافة فرص التواجد!!
فكيف ينتظر الرئيس أن يصدقه "أهل مدينة البط" عندما يقول أن هذه القرارات الدكتاتورية هي الحل الصعب لفترة مؤقتة لن تزيد؟!
بأي منطق؟! وبأي داعٍ للثقة؟!

قرارات الرئيس هي الحل الوحيد لتنفيذ الطلبات غير الدستورية للثورة..
ولكنها ليست الحل أبدا في ظل هذا الوضع وفي ظل هذه الظروف!
وعليه أن يدرك حجم التأييد الحقيقي له بين الناس خارج أبناء الجماعة.. ليتحرك على أساسها وفي نطاقها!
وعليه أن يدرك أن ميدان التحرير -ولأول مرة- يمتلئ بالناس في ظل عدم مشاركة الإخوان والسلفيين، والذين كان غيابهم كفيل بتحويل أي مليونية لمجرد "ألفية".