14.2.11

شكر أخير لرموز الحزب الوطني

في عز (سوري في اللفظ) فرحة الناس بالثورة المصرية، وفخرهم بالآراء الدولية عنها وعن تحضر شبابها.. يجب علينا أن نعطي كل ذي حقٍ حقَّه..
ويجب أن نبدأ بإعطاء مواقع المسئولية لمن هم أجدر، وليس من هم أقدم..
وبعد ذلك يُعطي الشكر لكل من يستحق، ويحاسب كل من لا يستحق.. فينتهي العصر القائل بأن "اللي له ضهر ما يتضربش على بطنه"، حيث يجب أن يصبح كل المصريين ظهورا لبعضهم البعض

وفي إطار إعطاء الحقوق لأصحابها.. أجد لزاما عليّ أن أوجه الشكر للحزب الوطني نظرا لدوره الكبير في نجاح الثورة، ودوره في إظهار أوجه جديدة جميلة في الشعب المصري.. اختفت تحت قذارات التصريحات الكاذبة والتقارير الملفقة

فمَن مِن المصريين يستطيع الآن إنكار أن جمال مبارك أصبح فعلا هو "مفجر ثورة التغيير"؟
ليس في الحزب فقط، بل في البلد بأسرها.. فلولا وجوده وسياساته الفاشلة واستعانته بالمنتهزين والمتسلقين، لم يكن ليتحرك أي مواطن مصري أو يفكر في تغيير أي شئ طالما أن "المركب ماشية"

ومن منهم يستطيع إنكار الدور السياسي الكبير لـأحمد بك عز في تحريك الثورة؟
فلولا وجود رجل مثله بكل ما يمتلك من جهل سياسي تام؛ ولولا أنه "فكر وقدّر".. بل ونفذ أن يكون مجلس الشعب كله مننا وعلينا (من الحزب وعلى الشعب طبعا)، ونسي إن النسبة الضئيلة للمعارضة التي كانت كالساعة (يعني لا بتقدم ولا تأخر) هي التي تزين تورتة المجلس الموقر، وهي "حصوة الملح" التي "بتخزي العين" من أي شخص حسود قد "ينش" إنجازات الحزب عين..
وبالتالي، ومع نقص حصو الملح في العيون، اتسعت عيون الحاسدين واستطاعت أن "تجيب الحزب الأرض" على طريقة "لمس الأكتاف" بعد 18 عَدَّة من الحَكـَم
وهذا ما جعل سمعة الحزب ومسئوليه تتنافس بقوة مع سمعة أي صفيحة من التي نراها أمام الشقق في البيوت

لكن الحزب لم يكتف بهذا، بل تعامل أيضا مع المطالب والمظاهرات بحكمة تامة، استطاعت تحويل مطالب التغيير إلى إصرار تام على الإطاحة، وجعْل المظاهرات تتحول إلى ثورة شعبية

فبقرار تسييب البلطجية على الشعب، والذي يشبه تعذيب المعتقلين بتسييب الكلاب عليهم، استطاع الحزب إن يجعل الشعب يدا واحدة، وأصبح أي كلب مسعور يأتي باحثا عن قطعة من العظم، يخرج وقد أصبح وجهه كالبالون المنتفخ، وكأن الناس تضرب فيه كل الخونة والبلطجية الذين حققوا نبوءة عادل إمام "لو كل واحد عزّل عشان تحتيه واحدة رقاصة، البلد كلها هتبات في الشارع"..
لنكتشف أن الفاسدين والمتسلقين أشد خطرا على أخلاق وحياة الناس من أية راقصة مبتذلة

بل وتأتي الخدمة الأعظم، حيث تسببت أحداث بلطجة الوطنيين "نسبة للحزب الوطني"، في إثبات أن الفتنة الطائفية بين المسلمين والمسيحيين لم تكن إلا أكذوبة كبيرة، جعلنا النظام السابق نحيا فيها، إما لخيانة داخلية أو غباء أزلي في التعامل معها
فرأينا المسلمين يصلون في التحرير في حماية المسيحيين، ورأينا المسيحيين يقيمون قداسا وسط عددٍ هائلٍ من المسلمين.. دون أية مشاكل
بل والأكثر أن الكنائس التي طالما رأينا قوات الأمن تقف أمامها، أصبحت تمر عليها الأيام دون أية حراسة، ولم تحدث أية اعتداءات عليها بفضل الله

بل قد ظهرت خدمة جليلة بعد التنحي، وهي أننا أصبحنا نرى برامج الإعلام المصري أكثر قوة، وأكثر ثِقــَلا بعد استضافة رموز مصرية مثل أحمد زويل وعمرو خالد ممن منعوا من الظهور فيه من قبل.. لنرى الفارق الشاسع بين التليفزيون الآن وبينه أيام كان لا يستطيع استضافة "المغضوب عليهم" مما يضطره كثيرا للإحتفاء بـ"الضالين"

وأخيرا..
نرى الدور الأبرز لرئيس الحزب السيد حسني مبارك.. والذي نستطيع الآن بالفعل أن نقول بملء الفم أن الثورة المصرية لم تكن لتنجح لولا تعليمات السيد الرئيس، ولولا بياناته التي كانت تأتي متأخرة بما يكفي لحث الشباب على الاستمرار في الثورة، حتى حققوا كل مطالبهم

فلكم الشكر كل أعضاء هذا الحزب، ونرجو ألا نرى أي "وطني" منكم لاحقا في أي ما يتعلق بحياتنا السياسية أو العامة، إلا كمواطن عادي.. مثلكم مثل أي مواطن آخر اكتوى بناركم، وشرب ذلكم حتى الثمالة

13.2.11

الذي اقترب.. ورأى


* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
*  اسم المقال مقتبس من قصة للروائي علاء الأسواني  *
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *

عدة دعوات تأتيني للنزول يوم 25 يناير
كالعادة أضغط بلا مبالاة على الزر الشهير ignore.. فلطالما رأيت التظاهرات اللي تطلقها كفاية أو "بتوع كفاية" كما كان اسمهم في الشارع، وهي عدة تظاهرات.. تُبحّ فيها الأصوات ويُضرب فيها المتظاهرين ويُعتقل بعضهم وإذا لزم الأمر فلا مانع من التحرش بعدة متظاهرات حتى ينفض المولد.. ونظل شهرًا أو اثنين نقرأ مقالات التنديد بالأداء الأمنى وتعامل الحكومة مع المظاهرات
ثم.. لا شئ

كنت متأكداً أنها لن تزيد على هذا، وما هي إلا فورة حماس نتجت عن الأحداث التونسية.
قضيت يومي واليومين التاليين على هذا الأساس مع ملاحظتي لارتفاع حدة الأحداث قليلا عن ذي قبل

ليبدأ يوم الجمعة..
وأجد أن الحدث أصبح حدثا هاما فعلا، وأن الجيش نزل إلى الشوارع فعلا، ولتبدأ بداخلي النزعة لمشاركة هؤلاء في مطالبهم التي بدأت تأخذ مأخذ الجدية
وما أن أتى الليل حتى أعلم أن الشوارع امتلأت بالبلطجية
وحتى أجد نفسي مضطرا لصرف النظر عن النزول للمظاهرات، من أجل مهمة أخرى
فقد وجدت نفسي لأول مرة مضطرا أن أبيت أمام بيتي، مع الجيران (وهم قلة لحداثة المنطقة التي أسكن بها).. ووجدتني أدور على مداخل المنطقة لغلقها بالكتل الحجرية وبقايا الشجر
ووجدتني لأول مرة ممسكا بقطعة حديدية (يعرفها أهل المعمار بالقمطة) كسلاح، معضدا لها بعلبة بيروسول وقداحة كخطٍ ثانٍ للدفاع!
وجدتني أجلس أمام كتل خشبية مشتعلة من الخشب مستمتعا بحالة المبيت لحماية بيوتنا وأهلنا.. رغم كل حالة القلق والترقب التي تنتابني مع كل طلقة أو دفعة طلقات نسمعها في الأفق لا نعلم لها مصدراً أو هويةً

حتى أتى الخطاب الذي جعلني أبيت منتشيا يوم الثلاثاء، والذي شعرت أنه ضمن لنا تغييرات عديدة ولم يعد من الصبر إلا ساعة قدرها ستة أشهر.. لاستيقظ مصدوما من مشاهد طالما رأيتها بين أهل فلسطين وإسرائيل.. ولكن المروّع ها هنا أنا بين مصريين.. ومصريين
أصبحت أرى أحجارا تتطاير يمينا ويسارا، ومنها إلى قنابل نارية، تُرمى حتى على مدرعات الجيش!!.. حتى تتحول إلى طلقات رصاص مجهولة المصدر.. لينكسر الأمل في التعديل الذي تأتي ثماره بعد ستة أشهر، ونبدأ في التأكد من أن الحداية ما بتحدفش كتاكيت وأن الزمار حتى وإن كان يموت، فإن صوابعه بتلعب حتى النهاية

وبدأت الأخبار المتناقضة تتزايد.. وبدأت الإشاعات تزداد
وشعرت بالخوف
الخوف على بلد تحترق ونحن لا نعلم أهي خيانة داخلية أم مؤامرة خارجية
الخوف الذي يشعر به طفل يكتشف أن أمه لم تعد تسير بجواره وأن كل من حوله لا يعرفهم
وقررت الابتعاد.. حتى يتبين لي منْ يحارب منْ.. ومن المسئول عن هذه المشاهد المرعبة

وتزداد حدة التناقضات في الأخبار..
اللي هناك كلهم إخوان.. اللي هناك أجانب.. دي ثورة محترمة.. اللي هناك شباب بايظ بيضرب مخدرات وهو في الميدان.. في حد بيحركهم من برة البلد.. دول بيناموا في خيام في الشارع الولاد والبنات مع بعض.. في حد بيحركهم من جوة البلد.. ما ينفعش يتنحى عشان الدستور مش هيتغير.. دي عيال أغبيا ودماغها ناشف.. عادي جدا إنه يتنحى والدستور يتغير، الشرعية شرعية الشعب.. العيال دي بيجيلها وجبات كنتاكي.. كلنا في الميدان زي بعض.. كفاية بقى لحد كده ما جتش من ست شهور.. لازم ندعم ثورة الشباب..

كانت هذه الأخبار تدفعني لشئ من اثنين..
الجنون أو النزول
قررت أن أنزل.. وأرى.. أن أكوّن رأيي بنفسي، حتى وإن لم يهتم به أحد
انضممت لمسيرة الأطباء، والتي توقعت أن تزيد على مئتي فرد، لأفاجأ بأكثر من ألفي طبيب.. أفاجأ بمسيرة عددها أكبر من أن تجتمع على ترديد هتافٍ واحد
مسيرة تأخذ نصف شارع قصر العيني ليمتلئ النصف الآخر بالمشاهدين والمصورين والمشجعين
رأيت الناس تخرج من الشبابيك لتصفق وتشجع

وما أن عبرت "نقطة التفتيش" حتى أفاجأ بأكوام القمامة.. لأعرف أن هناك لجانا تشكل لتنظيف المكان أولا بأول
خطوتين لينطلق الأذان من الإذاعات الداخلية لصلاة الظهر، وفي خلال دقيقتين تتراص الصفوف وتبدأ الصلاة بإمامة شيوخ الأزهر.. وبعد ذلك أجد المسيحيين منتشرون في المكان دون أدنى مشكلة

رأيت بعيني الرجال والنساء بالفعل في خيمة واحدة.. وبالطبع يلعب بجوارهم أبنائهم، وغالبا معلق على الخيمة أنهم جائوا من سيناء/ناهيا/أو حتى المنوفية لنفس الهدف

رأيت المستشفى الميداني وأفراد تأمينها، وأشخاص أتوا بسياراتهم لنقل عدة كراتين من العصائر والأدوية

وأخيرا.. رأيت الوجبااااااات.. وما أدراك ما الوجبات
ينادي عليّ أحد الأشخاص "اتفضل يا أستاذ.. يا أستاذ.. اتفضل دول" موجها إلى يده بأطباق من المخبوزات، آخذها وأعطيها لمن جلست معهم
لا يمر من الوقت غير قليل حتى يتكرر الموقف من شخص آخر، ونظل في محاولات اقناعه بأننا خدنا والله ومحاولات اقناعنا بأن إيه المشكلة؟ خدوا تاني.. زيادة الخير خيرين
ثم يأتي ثالث مناولا إيانا علبة كيك مونجيني.. ثم يأتي رجل بسيط مصرا على إعطائنا التمر.. ثم آخر لتوزيع قطايف!!
وأخيرا.. يأتي الدجاج.. الوجبات.. الفراخ الآثمة التي توهت عقول الشباب لتقنعهم بالبقاء في الميدان أبدا.. بالطبع كان أحد أفراد المجموعة تطوع ليكون الغدا عليه النهاردة بأرز ودجاج "بيتي"

رأيت الزحام الشديد بدون أي تأمين تمر منه المنتقبة بجوار السافرة بجوار أخرى تدخن سيجارة.. يمر الشاب "الروش" بجوار الشاب الملتحي.. كل هذا ولا تحدث مشاجرات أو تحرشات أو حتى معاكسات

رأيت احتفاءًا عجيبا بأي جندي من الجيش يمر خلال الأفراد وهم يكادون يحملوه حملا

رأيت أشخاصا مثقفين وأناس بسطاء يقف جميعهم مرددين يا حبيبتي يا مصر أو أحلف بسماها وبترابها

بل وأيضا رأيت بضع شباب ممن يتطوعون بالرقص في الأفراح الشعبية كنوع من المجاملة وهم يرقصون على أغنية حلوة يا بلدي.. ورغم أني وددت أن أخبرهم بأننا لسنا في فرح ابن العمدة، بل نحن هنا لنتخلص من العمدة وابنه..
إلا أن وجودهم أكد لي أن هذه الثورة ما زالت لا تنتمي لاتجاه.. ما زالت تعبر عن كل طوائف الشعب بما فيهم من حسنات وعيوب
خاصة عندما تجد هؤلاء الأشخاص التي ظهرت بـ"نصبة" الشاي، وكرتونة المياة، وعربة الفيشار.. كنوع من تقليب الرزق وأكل العيش

عاد احترامي لهذه الثورة كما كان من قبل.. وعاد فخري بهم كما كان.. وعرفت أنه سواء وجدت إرادة خارجية أو مؤامرة دولية للتغيير.. فهذا لا يهم، لأن الشعب نفسه يريد التغيير.. وبإذن الله سيكون ذلك في صالحه أولاً.. ولن يشرك فيه أحداً

ولم يتبق لي حتى أشاركهم إلا أن أعرف الإجابة على سؤال واحد.. وهو هل الدستور بالفعل عقبة (كما اقتنعت من قبل ودعوت الناس لذلك).. أم أنه حقا لا يوجد ما يقف أمام رغبة الناس؟
ولم يمهلني الرئيس (والحمد لله) حتى أبحث عن الإجابة.. حيث تنحى.. وفجأة يتضح أنه لا عقبات ولا يحزنون
ويتضح أن كل شئ ممكن.. وكل رغبة للناس سهلة التحقيق
ويتضح أن تعامل النظام مع المظاهرات نجح نجاحا مبهرا في اقناع المتظاهرين بالثبات على مواقفهم.. والإصرار على مطالبهم.. وكأنه يقول لهم أنا كده ووروني هتعملوا إيه

وأجد نفسي ممتنا للحظات انسانية عشتها مع هؤلاء الناس في الميدان
وممتنا للحظات عشتها أمام بيتي (كغيري من المصريين) حاملا قطعة حديد تمنحني بعض القوة وأنا لا أعرف كيف سأستخدمها إذا وقع المحظور
وأجد نفسي شاكرا لهؤلاء الشباب الذين كانوا السبب في تغيير مصر.. أو في أسوأ الأحوال غيروا نظرتنا لأنفسنا للأحسن.. والأحسن كثيرا جدا

2.2.11

عبيط القرية، ومصريزوفرينيا

أذكر زياراتنا المتبادلة، بيننا وبين أبناء خالتي، والذين يعيشون في بلدة ريفية تتبع محافظة الغربية

أتذكره جيدا.. بسماره الغريب، وجلبابه المتسخ الذي لا يتغير وقدمه التي يبدو أنها لم تعرف للحذاء أو حتى للـ"شبشب" طعما

إسداحمد المحرفة من الاسم سيد أحمد، والذي كنت أراه هناك دائما هائما على وجهه في القرية.. لا بيت له ولا مأوى إلا طرقات القرية.. وبقدر ما كان قلقي وخوفي منه، وشعوري بالاضطراب الذي أحاول جاهدا ألا يظهر عليّ إذا ما اقترب مني.. بقدر كل ذلك، كان تعجبي من تعامل أهل البلدة معه بتلقائية وأريحية شديدة دون تأفف لعدم نظافته، أو دون تذمر من اقترابه منهم

كان اسداحمد يتواجد في أي وقت.. يظهر وكأنه موجود دائما، ويختفي كأنه لم يوجد أصلا.. يجلس الرجال يثرثرون في أي حديث، وينزوي هو بجانب أي جدار.. أو بجوار أحدهم على الكنبة ممسكا بورق البفرة وعلبة التبغ منهمكا في لف السيجارة، يشارك أحيانا بكلمة أو تعليق ينم عن سذاجة طاغية في التفكير، أو تناقض في الكلمات والأفكار.. لا تكون إلا نقطة تحول بسيطة في الـ"الثرثرة" تدفعهم للضحك على طريقة تفكيره، أو تجذبهم لـ "نكشه" قليلا.. ثم يكملون كلامهم وكأن جملته لم تكن إلا جملة اعتراضية بين شرطتين يمكن حذفها دون أن يختل المعنى، ويمكن قرائتها أيضا من باب التسلية ليس إلا

لا أدري لماذا قفز إلى ذاكرتي في هذه الأيام.. خصوصا مع التغطية الإعلامية المتميزة من قنوات الإعلام الحكومي

الإعلام الذي انفرد بخبر المسيرات السلمية البسيطة يوم الثلاثاء، في الوقت الذي كانت ترصد فيه كل القنوات الإخبارية مظاهرات حاشدة في محافظات مختلفة بمصر

وهو الإعلام المتميز الذي أكد للناس استمرار بعض المسيرات السلمية ومحاول الإخوان تغذية الشغب بها يوم الجمعة؛ الذي كانت ترصده كافة القنوات العربية ناقلة أحداث ضرب المتظاهرين بالقنابل المسيلة للدموع، والطلقات المطاطية، وسيارة الأمن التي تجري - كالفأر المذعور الذي أمسكت به النار - يمينا ويسارا صادمة أحد المتظاهرين في السويس ومحاولةً اصطياد آخرين

والأغرب أنه الإعلام الذي كاد يقسم على المصريين بالعيش والملح بألا ينصاعوا وراء محاولات التضخيم الإعلامي من القنوات الأخرى.. بعد دقائق من إعلانه حظر التجول لمدة تربو على نصف اليوم!

إعلام غطى بكفاءة المظاهرات وما بها من لافتات تحمل نعم لمبارك بجانب اللافتات التي تؤكد أن مبارك أمان مصر وهي المظاهرات التي وقعت بالفعل من ألف من البشر أو يزيدون، ولا أدري من أين أتت القنوات الأخرى بمظاهرات دخيلة بها أناس خلفهم شئ يشبه المتحف المصري يحملون تنبيه بأنه حان الآن وقت الرحيل حسب التوقيت المحلي لمدينة القاهرة.. أو طلبات بالرحيل تؤكد على أنه ليس بالإمكان أحسن مما كان، ناهيك عن بعض اللافتات التي تتطالب بالمحاكمة.. ومن السهل توقع كيف تم دس هذه المشاهد الدخيلة في ظل تطور برامج الفوتوشوب والـ3D.. وانتشارها كالمحمول في يد الجميع

ببساطة..

ترك الإعلام المصري العالم الواقعي، وانزوى بجوار الجدار حالما بعالمه الخاص، تائها في أفكاره، والتي شارك بها ليجعل من نفسه أضحوكة للمشاهد، المشاهد الذي نسى إعلامنا أنه ممسك باختراع يسمى ريموت كونترول يستطيع به ويا للعجب أن يرى كل شئ في قنوات أخرى..
وأصبح يمثل في طريق تغييرك للقنوات كالجملة الاعتراضية التي تستطيع تخطيها دون أدنى ندم، أو تستطيع قرائتها إذا كنت غير مريض بضغط الدم

وحتى إذا أطلق المشاهد اللعنات على قناة الجزيرة المغرضة ذات الأغراض الدنيئة.. فما زال أمامه قناة العربية أو الـbbc العربية، والتي عرضت الأخبار بشكل كامل وواقعي

ويبدو أن انتشار كلمة ثورة.. جعل إعلامنا المغوار يأخذ دور الإذاعة المصرية وقت النكسة.. والذي لم يكتف بأننا ندافع عن أرضنا ببسالة، ولكننا ومن باب لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد أصبحنا على مشارف تل أبيب "هنخلص قوام قوام وراجعين".. ليكتشف المصريون فجأة أن سيناء كاملة أصبحت "خارج نطاق الخدمة مؤقتا"

ووسط كل ذلك..
وقفت القنوات المصرية الخاصة موقفا أكثر تشريفا واتزانا.. وعرضت الأحداث وأكدت أنها فخورة بالشباب، وتبارت في إظهار هذا العمل الشجاع غير المسبوق، مع كامل الاحترام للرئيس وانجازاته، ولكن قد حان وقت التغيير و(والله مانا.. دول الشباب).. وما دام أراد هذا الشباب اللي يفرح هذا، فلابد أن نحترم رغباته.. وإذا الشاب يوما أراد الحياة، فلابد أن يستجيب الرئيس لمطالبه.. مؤكدة أننا نريد انتقال سلمي للسلطة في مصر يحقق للشباب مطلبه، ويكفل للرئيس خروجا آمنا من السلطة

وأخيرا، وبعد أسبوع من ميلاد المظاهرات، خرج الرئيس ليؤكد أنه رغبة منه في تحقيق آمال الشباب فهو يطلب من البرلمان تعديل المادتين 76 و 77 من الدستور بعد سنوات عدة "نشف فيها ريق المعارضة" لتنفيذ هذا الطلب.. وليطمنهم أنه كان يطمح -أساسا- للتخلص من أعباء السلطة وعدم تحمل هذه الأعباء لسنواتٍ ستٍ مقبلة مرهقة

وللعجب العجاب..

تجد نفس القناة التي كانت تدعم الشباب.. وتفخر بامتلاك مصر شباب يفرح مثلهم.. تبدأ في بث برامج تسير في اتجاه مغاير تماما.. وتجلس المذيعة الشابة بدون المكياج المعتاد متشحة بالسواد، ينبئك مظهرها عن مرورها بحالة من البكاء المرير لهذا الخبر الصادم، وتتلقى تليفونات باكية شاكية تبث همها وحزنها لعدم ترشح الرئيس لفترة سادسة يقود فيها السفينة المصرية.. تنوح أن ينقذ أحدهم هؤلاء شباب اللي فيه حد بيسوقه، وأن الموضوع فيه إنّ مشددة على أنه حرام اللي بيحصل ده خاصة وأننا كلنا بنحب الريّس حتى وإن لم يكن منتخب مصر كويس

وما أن بدأتُ بكتابة هذا المقال تنفيسا عن أعصابي مما شاهدت من تناقضات.. حتى أفاجأ بما هو أعجب من هذا العجب العجاب.. حيث شاهدت بأم عيني ما لم أصدقه حتى الآن.. وما لم أحسب له حساب

أسامة سرايا.. أسااااامة سرااااايا؛
وأنت أعلم مني بما دار في رأسك الآن عند ذكري لهذا الاسم

أراه يقف في المظاهرة.. قائلا أنهم حاولوا يخوفونا (لاحظ صيغة الجمع للمتكلم) من أن ننزل للمظاهرة، ويطلبوا مننا (لاحظ الصيغة أيضا) أن نبقى ببيوتنا لنحميها.. متعجبا من أنهم (من المؤكد أنك لاحظت صيغة الغائب) وزعوا منشورات تقول نعم لمبارك، وهو ما جعله أصر يصر إصرارا، وألح يلح إلحاحا، ألا يخاف وينزل - مشاركا - في المظاهرات!!!!!

يبدو أن هذه حالة خاصة ومتقدمة من السكيزوفرينيا لم ولن تظهر.. إلا في مصر

وكم ذا بمصر من المضحكات           ولكنه (بحق) ضحك كالبكا