13.2.11

الذي اقترب.. ورأى


* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
*  اسم المقال مقتبس من قصة للروائي علاء الأسواني  *
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *

عدة دعوات تأتيني للنزول يوم 25 يناير
كالعادة أضغط بلا مبالاة على الزر الشهير ignore.. فلطالما رأيت التظاهرات اللي تطلقها كفاية أو "بتوع كفاية" كما كان اسمهم في الشارع، وهي عدة تظاهرات.. تُبحّ فيها الأصوات ويُضرب فيها المتظاهرين ويُعتقل بعضهم وإذا لزم الأمر فلا مانع من التحرش بعدة متظاهرات حتى ينفض المولد.. ونظل شهرًا أو اثنين نقرأ مقالات التنديد بالأداء الأمنى وتعامل الحكومة مع المظاهرات
ثم.. لا شئ

كنت متأكداً أنها لن تزيد على هذا، وما هي إلا فورة حماس نتجت عن الأحداث التونسية.
قضيت يومي واليومين التاليين على هذا الأساس مع ملاحظتي لارتفاع حدة الأحداث قليلا عن ذي قبل

ليبدأ يوم الجمعة..
وأجد أن الحدث أصبح حدثا هاما فعلا، وأن الجيش نزل إلى الشوارع فعلا، ولتبدأ بداخلي النزعة لمشاركة هؤلاء في مطالبهم التي بدأت تأخذ مأخذ الجدية
وما أن أتى الليل حتى أعلم أن الشوارع امتلأت بالبلطجية
وحتى أجد نفسي مضطرا لصرف النظر عن النزول للمظاهرات، من أجل مهمة أخرى
فقد وجدت نفسي لأول مرة مضطرا أن أبيت أمام بيتي، مع الجيران (وهم قلة لحداثة المنطقة التي أسكن بها).. ووجدتني أدور على مداخل المنطقة لغلقها بالكتل الحجرية وبقايا الشجر
ووجدتني لأول مرة ممسكا بقطعة حديدية (يعرفها أهل المعمار بالقمطة) كسلاح، معضدا لها بعلبة بيروسول وقداحة كخطٍ ثانٍ للدفاع!
وجدتني أجلس أمام كتل خشبية مشتعلة من الخشب مستمتعا بحالة المبيت لحماية بيوتنا وأهلنا.. رغم كل حالة القلق والترقب التي تنتابني مع كل طلقة أو دفعة طلقات نسمعها في الأفق لا نعلم لها مصدراً أو هويةً

حتى أتى الخطاب الذي جعلني أبيت منتشيا يوم الثلاثاء، والذي شعرت أنه ضمن لنا تغييرات عديدة ولم يعد من الصبر إلا ساعة قدرها ستة أشهر.. لاستيقظ مصدوما من مشاهد طالما رأيتها بين أهل فلسطين وإسرائيل.. ولكن المروّع ها هنا أنا بين مصريين.. ومصريين
أصبحت أرى أحجارا تتطاير يمينا ويسارا، ومنها إلى قنابل نارية، تُرمى حتى على مدرعات الجيش!!.. حتى تتحول إلى طلقات رصاص مجهولة المصدر.. لينكسر الأمل في التعديل الذي تأتي ثماره بعد ستة أشهر، ونبدأ في التأكد من أن الحداية ما بتحدفش كتاكيت وأن الزمار حتى وإن كان يموت، فإن صوابعه بتلعب حتى النهاية

وبدأت الأخبار المتناقضة تتزايد.. وبدأت الإشاعات تزداد
وشعرت بالخوف
الخوف على بلد تحترق ونحن لا نعلم أهي خيانة داخلية أم مؤامرة خارجية
الخوف الذي يشعر به طفل يكتشف أن أمه لم تعد تسير بجواره وأن كل من حوله لا يعرفهم
وقررت الابتعاد.. حتى يتبين لي منْ يحارب منْ.. ومن المسئول عن هذه المشاهد المرعبة

وتزداد حدة التناقضات في الأخبار..
اللي هناك كلهم إخوان.. اللي هناك أجانب.. دي ثورة محترمة.. اللي هناك شباب بايظ بيضرب مخدرات وهو في الميدان.. في حد بيحركهم من برة البلد.. دول بيناموا في خيام في الشارع الولاد والبنات مع بعض.. في حد بيحركهم من جوة البلد.. ما ينفعش يتنحى عشان الدستور مش هيتغير.. دي عيال أغبيا ودماغها ناشف.. عادي جدا إنه يتنحى والدستور يتغير، الشرعية شرعية الشعب.. العيال دي بيجيلها وجبات كنتاكي.. كلنا في الميدان زي بعض.. كفاية بقى لحد كده ما جتش من ست شهور.. لازم ندعم ثورة الشباب..

كانت هذه الأخبار تدفعني لشئ من اثنين..
الجنون أو النزول
قررت أن أنزل.. وأرى.. أن أكوّن رأيي بنفسي، حتى وإن لم يهتم به أحد
انضممت لمسيرة الأطباء، والتي توقعت أن تزيد على مئتي فرد، لأفاجأ بأكثر من ألفي طبيب.. أفاجأ بمسيرة عددها أكبر من أن تجتمع على ترديد هتافٍ واحد
مسيرة تأخذ نصف شارع قصر العيني ليمتلئ النصف الآخر بالمشاهدين والمصورين والمشجعين
رأيت الناس تخرج من الشبابيك لتصفق وتشجع

وما أن عبرت "نقطة التفتيش" حتى أفاجأ بأكوام القمامة.. لأعرف أن هناك لجانا تشكل لتنظيف المكان أولا بأول
خطوتين لينطلق الأذان من الإذاعات الداخلية لصلاة الظهر، وفي خلال دقيقتين تتراص الصفوف وتبدأ الصلاة بإمامة شيوخ الأزهر.. وبعد ذلك أجد المسيحيين منتشرون في المكان دون أدنى مشكلة

رأيت بعيني الرجال والنساء بالفعل في خيمة واحدة.. وبالطبع يلعب بجوارهم أبنائهم، وغالبا معلق على الخيمة أنهم جائوا من سيناء/ناهيا/أو حتى المنوفية لنفس الهدف

رأيت المستشفى الميداني وأفراد تأمينها، وأشخاص أتوا بسياراتهم لنقل عدة كراتين من العصائر والأدوية

وأخيرا.. رأيت الوجبااااااات.. وما أدراك ما الوجبات
ينادي عليّ أحد الأشخاص "اتفضل يا أستاذ.. يا أستاذ.. اتفضل دول" موجها إلى يده بأطباق من المخبوزات، آخذها وأعطيها لمن جلست معهم
لا يمر من الوقت غير قليل حتى يتكرر الموقف من شخص آخر، ونظل في محاولات اقناعه بأننا خدنا والله ومحاولات اقناعنا بأن إيه المشكلة؟ خدوا تاني.. زيادة الخير خيرين
ثم يأتي ثالث مناولا إيانا علبة كيك مونجيني.. ثم يأتي رجل بسيط مصرا على إعطائنا التمر.. ثم آخر لتوزيع قطايف!!
وأخيرا.. يأتي الدجاج.. الوجبات.. الفراخ الآثمة التي توهت عقول الشباب لتقنعهم بالبقاء في الميدان أبدا.. بالطبع كان أحد أفراد المجموعة تطوع ليكون الغدا عليه النهاردة بأرز ودجاج "بيتي"

رأيت الزحام الشديد بدون أي تأمين تمر منه المنتقبة بجوار السافرة بجوار أخرى تدخن سيجارة.. يمر الشاب "الروش" بجوار الشاب الملتحي.. كل هذا ولا تحدث مشاجرات أو تحرشات أو حتى معاكسات

رأيت احتفاءًا عجيبا بأي جندي من الجيش يمر خلال الأفراد وهم يكادون يحملوه حملا

رأيت أشخاصا مثقفين وأناس بسطاء يقف جميعهم مرددين يا حبيبتي يا مصر أو أحلف بسماها وبترابها

بل وأيضا رأيت بضع شباب ممن يتطوعون بالرقص في الأفراح الشعبية كنوع من المجاملة وهم يرقصون على أغنية حلوة يا بلدي.. ورغم أني وددت أن أخبرهم بأننا لسنا في فرح ابن العمدة، بل نحن هنا لنتخلص من العمدة وابنه..
إلا أن وجودهم أكد لي أن هذه الثورة ما زالت لا تنتمي لاتجاه.. ما زالت تعبر عن كل طوائف الشعب بما فيهم من حسنات وعيوب
خاصة عندما تجد هؤلاء الأشخاص التي ظهرت بـ"نصبة" الشاي، وكرتونة المياة، وعربة الفيشار.. كنوع من تقليب الرزق وأكل العيش

عاد احترامي لهذه الثورة كما كان من قبل.. وعاد فخري بهم كما كان.. وعرفت أنه سواء وجدت إرادة خارجية أو مؤامرة دولية للتغيير.. فهذا لا يهم، لأن الشعب نفسه يريد التغيير.. وبإذن الله سيكون ذلك في صالحه أولاً.. ولن يشرك فيه أحداً

ولم يتبق لي حتى أشاركهم إلا أن أعرف الإجابة على سؤال واحد.. وهو هل الدستور بالفعل عقبة (كما اقتنعت من قبل ودعوت الناس لذلك).. أم أنه حقا لا يوجد ما يقف أمام رغبة الناس؟
ولم يمهلني الرئيس (والحمد لله) حتى أبحث عن الإجابة.. حيث تنحى.. وفجأة يتضح أنه لا عقبات ولا يحزنون
ويتضح أن كل شئ ممكن.. وكل رغبة للناس سهلة التحقيق
ويتضح أن تعامل النظام مع المظاهرات نجح نجاحا مبهرا في اقناع المتظاهرين بالثبات على مواقفهم.. والإصرار على مطالبهم.. وكأنه يقول لهم أنا كده ووروني هتعملوا إيه

وأجد نفسي ممتنا للحظات انسانية عشتها مع هؤلاء الناس في الميدان
وممتنا للحظات عشتها أمام بيتي (كغيري من المصريين) حاملا قطعة حديد تمنحني بعض القوة وأنا لا أعرف كيف سأستخدمها إذا وقع المحظور
وأجد نفسي شاكرا لهؤلاء الشباب الذين كانوا السبب في تغيير مصر.. أو في أسوأ الأحوال غيروا نظرتنا لأنفسنا للأحسن.. والأحسن كثيرا جدا

هناك تعليقان (2):

Unknown يقول...

أحترم شجاعتك و براعتك في اظهار الوجه الحقيقي للناس اللي كنت شايفهم - من وجهة نظري - سلبيين
أكيد أنا حكمت عليهم غلط
و أعتقد إن ده بسبب حماس زيادة و خوف من فشل الثورة

أسلوبك جميل كالعادة
بالتوفيق :)

غير معرف يقول...

شكرا يا محمود
يا رب الناس اللي في المسئولية عن البلد دلوقتي يحققوا كل اللي الناس تعبت عشانه وييجي اليوم اللي نشوف فيه البلد.. بلد محترمة بجد في كل مكان