2.2.11

عبيط القرية، ومصريزوفرينيا

أذكر زياراتنا المتبادلة، بيننا وبين أبناء خالتي، والذين يعيشون في بلدة ريفية تتبع محافظة الغربية

أتذكره جيدا.. بسماره الغريب، وجلبابه المتسخ الذي لا يتغير وقدمه التي يبدو أنها لم تعرف للحذاء أو حتى للـ"شبشب" طعما

إسداحمد المحرفة من الاسم سيد أحمد، والذي كنت أراه هناك دائما هائما على وجهه في القرية.. لا بيت له ولا مأوى إلا طرقات القرية.. وبقدر ما كان قلقي وخوفي منه، وشعوري بالاضطراب الذي أحاول جاهدا ألا يظهر عليّ إذا ما اقترب مني.. بقدر كل ذلك، كان تعجبي من تعامل أهل البلدة معه بتلقائية وأريحية شديدة دون تأفف لعدم نظافته، أو دون تذمر من اقترابه منهم

كان اسداحمد يتواجد في أي وقت.. يظهر وكأنه موجود دائما، ويختفي كأنه لم يوجد أصلا.. يجلس الرجال يثرثرون في أي حديث، وينزوي هو بجانب أي جدار.. أو بجوار أحدهم على الكنبة ممسكا بورق البفرة وعلبة التبغ منهمكا في لف السيجارة، يشارك أحيانا بكلمة أو تعليق ينم عن سذاجة طاغية في التفكير، أو تناقض في الكلمات والأفكار.. لا تكون إلا نقطة تحول بسيطة في الـ"الثرثرة" تدفعهم للضحك على طريقة تفكيره، أو تجذبهم لـ "نكشه" قليلا.. ثم يكملون كلامهم وكأن جملته لم تكن إلا جملة اعتراضية بين شرطتين يمكن حذفها دون أن يختل المعنى، ويمكن قرائتها أيضا من باب التسلية ليس إلا

لا أدري لماذا قفز إلى ذاكرتي في هذه الأيام.. خصوصا مع التغطية الإعلامية المتميزة من قنوات الإعلام الحكومي

الإعلام الذي انفرد بخبر المسيرات السلمية البسيطة يوم الثلاثاء، في الوقت الذي كانت ترصد فيه كل القنوات الإخبارية مظاهرات حاشدة في محافظات مختلفة بمصر

وهو الإعلام المتميز الذي أكد للناس استمرار بعض المسيرات السلمية ومحاول الإخوان تغذية الشغب بها يوم الجمعة؛ الذي كانت ترصده كافة القنوات العربية ناقلة أحداث ضرب المتظاهرين بالقنابل المسيلة للدموع، والطلقات المطاطية، وسيارة الأمن التي تجري - كالفأر المذعور الذي أمسكت به النار - يمينا ويسارا صادمة أحد المتظاهرين في السويس ومحاولةً اصطياد آخرين

والأغرب أنه الإعلام الذي كاد يقسم على المصريين بالعيش والملح بألا ينصاعوا وراء محاولات التضخيم الإعلامي من القنوات الأخرى.. بعد دقائق من إعلانه حظر التجول لمدة تربو على نصف اليوم!

إعلام غطى بكفاءة المظاهرات وما بها من لافتات تحمل نعم لمبارك بجانب اللافتات التي تؤكد أن مبارك أمان مصر وهي المظاهرات التي وقعت بالفعل من ألف من البشر أو يزيدون، ولا أدري من أين أتت القنوات الأخرى بمظاهرات دخيلة بها أناس خلفهم شئ يشبه المتحف المصري يحملون تنبيه بأنه حان الآن وقت الرحيل حسب التوقيت المحلي لمدينة القاهرة.. أو طلبات بالرحيل تؤكد على أنه ليس بالإمكان أحسن مما كان، ناهيك عن بعض اللافتات التي تتطالب بالمحاكمة.. ومن السهل توقع كيف تم دس هذه المشاهد الدخيلة في ظل تطور برامج الفوتوشوب والـ3D.. وانتشارها كالمحمول في يد الجميع

ببساطة..

ترك الإعلام المصري العالم الواقعي، وانزوى بجوار الجدار حالما بعالمه الخاص، تائها في أفكاره، والتي شارك بها ليجعل من نفسه أضحوكة للمشاهد، المشاهد الذي نسى إعلامنا أنه ممسك باختراع يسمى ريموت كونترول يستطيع به ويا للعجب أن يرى كل شئ في قنوات أخرى..
وأصبح يمثل في طريق تغييرك للقنوات كالجملة الاعتراضية التي تستطيع تخطيها دون أدنى ندم، أو تستطيع قرائتها إذا كنت غير مريض بضغط الدم

وحتى إذا أطلق المشاهد اللعنات على قناة الجزيرة المغرضة ذات الأغراض الدنيئة.. فما زال أمامه قناة العربية أو الـbbc العربية، والتي عرضت الأخبار بشكل كامل وواقعي

ويبدو أن انتشار كلمة ثورة.. جعل إعلامنا المغوار يأخذ دور الإذاعة المصرية وقت النكسة.. والذي لم يكتف بأننا ندافع عن أرضنا ببسالة، ولكننا ومن باب لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد أصبحنا على مشارف تل أبيب "هنخلص قوام قوام وراجعين".. ليكتشف المصريون فجأة أن سيناء كاملة أصبحت "خارج نطاق الخدمة مؤقتا"

ووسط كل ذلك..
وقفت القنوات المصرية الخاصة موقفا أكثر تشريفا واتزانا.. وعرضت الأحداث وأكدت أنها فخورة بالشباب، وتبارت في إظهار هذا العمل الشجاع غير المسبوق، مع كامل الاحترام للرئيس وانجازاته، ولكن قد حان وقت التغيير و(والله مانا.. دول الشباب).. وما دام أراد هذا الشباب اللي يفرح هذا، فلابد أن نحترم رغباته.. وإذا الشاب يوما أراد الحياة، فلابد أن يستجيب الرئيس لمطالبه.. مؤكدة أننا نريد انتقال سلمي للسلطة في مصر يحقق للشباب مطلبه، ويكفل للرئيس خروجا آمنا من السلطة

وأخيرا، وبعد أسبوع من ميلاد المظاهرات، خرج الرئيس ليؤكد أنه رغبة منه في تحقيق آمال الشباب فهو يطلب من البرلمان تعديل المادتين 76 و 77 من الدستور بعد سنوات عدة "نشف فيها ريق المعارضة" لتنفيذ هذا الطلب.. وليطمنهم أنه كان يطمح -أساسا- للتخلص من أعباء السلطة وعدم تحمل هذه الأعباء لسنواتٍ ستٍ مقبلة مرهقة

وللعجب العجاب..

تجد نفس القناة التي كانت تدعم الشباب.. وتفخر بامتلاك مصر شباب يفرح مثلهم.. تبدأ في بث برامج تسير في اتجاه مغاير تماما.. وتجلس المذيعة الشابة بدون المكياج المعتاد متشحة بالسواد، ينبئك مظهرها عن مرورها بحالة من البكاء المرير لهذا الخبر الصادم، وتتلقى تليفونات باكية شاكية تبث همها وحزنها لعدم ترشح الرئيس لفترة سادسة يقود فيها السفينة المصرية.. تنوح أن ينقذ أحدهم هؤلاء شباب اللي فيه حد بيسوقه، وأن الموضوع فيه إنّ مشددة على أنه حرام اللي بيحصل ده خاصة وأننا كلنا بنحب الريّس حتى وإن لم يكن منتخب مصر كويس

وما أن بدأتُ بكتابة هذا المقال تنفيسا عن أعصابي مما شاهدت من تناقضات.. حتى أفاجأ بما هو أعجب من هذا العجب العجاب.. حيث شاهدت بأم عيني ما لم أصدقه حتى الآن.. وما لم أحسب له حساب

أسامة سرايا.. أسااااامة سرااااايا؛
وأنت أعلم مني بما دار في رأسك الآن عند ذكري لهذا الاسم

أراه يقف في المظاهرة.. قائلا أنهم حاولوا يخوفونا (لاحظ صيغة الجمع للمتكلم) من أن ننزل للمظاهرة، ويطلبوا مننا (لاحظ الصيغة أيضا) أن نبقى ببيوتنا لنحميها.. متعجبا من أنهم (من المؤكد أنك لاحظت صيغة الغائب) وزعوا منشورات تقول نعم لمبارك، وهو ما جعله أصر يصر إصرارا، وألح يلح إلحاحا، ألا يخاف وينزل - مشاركا - في المظاهرات!!!!!

يبدو أن هذه حالة خاصة ومتقدمة من السكيزوفرينيا لم ولن تظهر.. إلا في مصر

وكم ذا بمصر من المضحكات           ولكنه (بحق) ضحك كالبكا

ليست هناك تعليقات: