28.4.13

الطريق إلى تلات

في خلال رحلتي الأولى إلى منشأة سكران (جاري التحري عن أصل التسمية).. وصلت لـ "صوفي".. لأتخذ منها وسيلة المواصلات الثالثة، والمتجهة إلى "تلات"!
أسأل ببراءة عن ميكروباص "تلات"، فيشير لي السائق إلى سيارة ربع نقل "متقفلة بوكس"، لأعرف أنها وسيلة المواصلات المتاحة لوجهتي التالية لأتذكر البطل "نبيل الحلفاوي" وهو في سيارة تشبهها في خلال رحلته إلى إيلات، في محاولات توسعة فتحة شئ أبيض قابل للإنفجار.

لا أشعر بأي مشاعر بطولة كالتي شعر بها البطل في الفيلم، ولكني كنت مثله أدرك أني قد أكون "داخل على مصيبة".. أصعد للـ"بوكس".. ترتطم رأسي بعارضة حديدية تعمل كدعامة لسقف البوكس.
أجلس في انتظار اكتمال الركاب بجوار رجل أربعيني ذو لحية مشذبة بعناية.. يصعد رجل في الستينات من عمره.. ترتطم رأسه بالعارضة، ويجلس أمامي بجوار سيدتين في بدايات العقد الخامس من عمريهما، ثم رجل خمسيني تحميه جلسته قبل العارضة الحديدية من الاصطدام بها، ثم رجل خمسيني آخر يجلس بجواري بعد أن يصطدم بالعارضة.. ثم نتحرك بعد أن يكتمل عددنا بشاب في بدايات العشرينيات، والذي يتخذ مكانه بيننا بعد ارتطامه الموفق بالعارضة!

ينطلق السائق..
ثم تبدأ حالة الألفة المصرية الطبيعية التي تنشأ في المواصلات العامة، فيشارك الجميع في أي موضوع مشترك أو غير مشترك، ولكن في هذا اليوم يدور الحديث كله حول مشكلة الساعة.. رغيف العيش!
يتحدث الناجي من العارضة شاكيا :
الراجل بتاع الفرنة كان بيبيع الرغيف امبارح على 35.. محدش اشترى منه، والله عيش بـ150 جنيه ما حد خد منه حاجة، ما هو صحيح هاخد إزاي رغيف بـ35 قرش؟ ده أنا أروح أجيب السياحي بـ20 أحسن بقى!
يرد الرجل الستيني :
ما هو صحيح، أجيب أنا رغيف بـ35 ليه يعني؟ أمال هناكل إيه بعد كده؟
ترد المرأة بجواره مستفهمه بقلق :
طيب وهيفضل بالسعر ده؟
يرد الرجل الخمسيني :
ما هو يقول لك لو رحتي تجيبيه بالاشتراك تاخديه بشلن.. برة الاشتراك يبقى بـ35.
يرد الرجل الملتحي بحذر :
طيب يا حاج ما تشتري بالاشتراك، خد اللي انت عايزه وهيبقى بشلن!
يشعر الخمسيني وكأن حالة الرعب -والتي كأنه يتلذذ بنشرها- تكاد تُهدم ببساطة فيجيب :
ما هو أنا وإنت هنجيب بالاشتراك.. بس الفواعلية الغلابة هيجيبوا منين بقى؟ وهيجيبوا أبو 35 ده إزاي؟
يبدو على الركاب الاقتناع حتى كادوا يرددون : آه والله.. آه والله.. آه والله.
فيرد الملتحي :
طيب ما يعملوا اشتراك هم كمان!
يؤكد الستيني والمرأة على كلامه، وكأنهم أدركوا لتوهما بساطة الحل :
صحيح وهم ما يعملوش اشتراك ليه؟
يحاول الخمسيني إطلاعهم على سذاجتهم وغياب الحقائق الكاملة عن أذهانهم وإنقاذ حالة الرعب من التبدد :
يا بوي دول مش من هنا.. مش هينفع يطلعوا الاشتراك إلا في المركز اللي هم منه، لكن هنا مش هيرضوا يطلعولهم خالص..

ثم يستدرك مؤكدا :

أنا نفسي رحت أجدده في مكان تاني قال لي ما ينفعش.. لازم تجدده عند بيتك.. عند محل سكنك في المركز اللي إنت منه.
يتحسر الرجل الستيني الكبير على سوء الأحوال، ثم يحاول طمأنه نفسه :
الحمد لله لسة عندي أربع أراديب قمح بابيع فيهم، آهم هيكفوني أنا وعيالي.. مش هنغلب في اللقمة اللي هناكلها.
يشعر الرجل الخمسيني وكأن حالة الرعب التي بناها تتلاشى سريعا فيؤكد :
على رأيك.. الواحد مش هيغلب في اللقمة، ربنا بس يحافظ لنا على الصحة، لأن دي لو راحت الواحد مش هنلاحق عليها مصاريف.
يتذكر الستيني نجاته مما يحذره منه محدّثه :
على رأيك والله.. من كام يوم وقعت.. الحتة دية (مشيرا إلى التقاء فخذه بجسده) طقت جامد، رحت للدكتور قال لي إنها هربت من مكانها.. الدبوسة اللي انت بتخلعها من الفرخة دي وإنت بتاكل.. هربت من مكانها بس مش قوي، قال لي لو كانت اتفسخت خالص كنت دخلت في موال كبير، ولا خمسين ألف جنيه.
تتردد عبارات المشاركة الوجدانية :
سلامتك يا حاج.. الحمد لله على كل حال.. قدر ولطف. 
ويبدو أن الرجل "المرعب" لم يجد ما يلقيه في نار الرعب التي بدأت تخبو فلاذ بالصمت.
تنتهي الرحلة بصعود امرأة أخرى، وبداية شجار عنيف بينها وبين المرأة الجالسة أمامي بلا سبب تقريبا فتعترض على أنها "مش عايزاها تركب وهي واخدة مكانين وهي أصلا قد كده"، فتدافع الأخيرة عن نفسها بأن "ما انتي لو تطفّي النار اللي جواكي دي كنت تخنتي ومليتي انتي كمان"، فأتركهم وأنزل "محتاطا من العارضة" بعد أن وصلت لوجهتي.. تلات.. لأبحث عن وسيلة المواصلات الرابعة حتى أصل للوحدة الصحية.. وأنا أتعجب من بحث أهل الريف عن رغيف الخبز في الفرن بعد أن كانوا يحققون الاكتفاء منه ذاتياً!

30.3.13

خطّان

يتلاقى الخطان..
خطُّك السائرُ في اتجاهاتٍ تختارُها أحيانًا، أو تختارُكَ كثيراً..
وخطُها الآتٍ من مكانٍ ما.
يتكرر التلاقِ..
تكرار تلاق موجة عنيدة بصخرة ساكنة، لا تلبث إلا أن تعود معها فتاتاً ذائباً لا حول له ولا قوة.. ولو بعد حين.
هل كنتَ الموجة؟ أم أصبحتَ الفُتات؟

سعادةٌ طفوليةٌ تعتريكَ..
تعطي قلبَكَ أولَ دروسِ الرقصِ فَرَحاً بين جدرانِ قفصِهِ، بمجردِ الاقتراب..
أيّ اقتراب..
ولو عبرَ النبضاتِ الإلكترونيةِ.. الناقلةِ لتكتكاتِكَ العازفةِ على لوحةِ مفاتيحِكَ لحناً أصبحَ شجياً بلا وزنٍ ولا نغمات.
حتى مع ضحكاتك المنفردة، السعيدة بتخيل الضحكات المتزامنة معها على الطرف الآخر.
حتى مع استعادتك لتلك الضحكات مرة تلو الأخرى، بمراجعة تسلسل الكلمات المخزنة لديك، مجتراً لحظات سعادتك لمجرد إضحاكها.

تتلاعبُ بكَ الحيرةُ ساخرةً كطفلةٍ شقيةٍ..
تتقاذفُك..
بين نظرةٍ لعينيها تخشى أن تفضحَكَ..
هل كنتَ تُدرك أن لهذا اللون - الذي تلقاه يوميا مئات المرات - مثل هذا السحر؟!
.. وبين نظرةٍ هاربةٍ تلوذُ بأي كُرسيِّ خالٍ، أو أي ورقةٍ ملقاةٍ هنا أو هناك، احتراما لحدود لم تسمح لنفسك بتخطيها بعد..
ولكن هل ستظل ناظراً للكرسيّ طيلةَ الوقتِ؟!!

يتلاقى الخطان..
يتضافر خطُّك مع الخطِّ الآخرِ في اتجاهٍ جديدٍ لم تعرف إن كنت قد اخترته أم هو الذي اختارك..
لم يعد يهم..
فأنت على أية حالٍ تترك نفسك له سعيدا.. ممتنا أنك -بطريقة ما- أصبحت منساباً فيه.